...................................................
--------------------------------------------------------------------------------
* يقول المشككون في السنة، إن القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى، وبقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)1 ، كيف لا ومفرداته كلام الله، وحروفه ثابتة، وأحكام تلاوته متواترة ومحفوظة في الصدور والسطور.
* كما أن القرآن كاف شاف يقول سبحانه وتعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)2 ؟ ويقول سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)3، فما حاجتنا إلى السنة وفي القرآن اكتمال كل شيء، وتبيان كل شيء أيضا؟
* يضيف المتشككون أن التعهد الإلهي بحفظ القرآن الكريم لا يشمل السنة: التي هي كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهي غير محفوظة، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو بشر ينسى كما ينسى الناس، ويغضب كما يغضب الناس، فكيف نسجل جميع أحواله ونتعبد بها لله تعالى، خاصة فيما لم يقم عليه دليل في القرآن الكريم؟
* علاوة على ما سبق، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه من خطورة الكذب عليه، في الحديث المتواتر: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" فما حاجتنا إلى السنة؟ خاصة وهي غير محفوظة كالقرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم بشر، وتعمد الكثيرون الكذب عليه، فما حاجتنا إلى السنة؟
الرد على شبهة الاكتفاء بالقرآن
1. الدفع الأول : اثبتوا دعواكم من القرآن الكريم
إذا كان فهم المتشككين لآيات الله تعالى صحيحا، وأن القرآن لم يفرط في شيء، وفيه تبيان كل شيء، فعليهم إثبات دعواهم بالاكتفاء بالقرآن ونبذ السنة من القرآن الكريم، هذا هو المصحف، فأين الآيات التي تأمرنا بالاكتفاء بالقرآن؟ وتطالبنا في نفس الوقت بنبذ سنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه. ومطلبنا هذا تعلمناه من القرآن الكريم، في قوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)4 ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: البينة على من ادعى. [ (تخريج 2) ] .
2. الدفع الثاني: القرآن والسنة من مشكاة واحدة
* القرآن الكريم كلام الله القديم، نزل به جبريل جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجما على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)5 ، فالنبي المعصوم لا ينطق إلا بوحي من رب السماء والأرض.
* نعم السنة كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، ولكنه لا يتصرف من نفسه وهواه، وإنما هي وحي من الله تعالى، ينزل بها أمين الوحي جبريل عليه السلام، والمطلع على كتب السنة والسيرة يرى جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة – يصعب استقصاؤها - لبيان أحكام أو إظهار حقائق خافية يستند إليها الحكم الإلهي، وفي الحديث الشريف الذي يرويه أبو هريرة أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقا" [ (تخريج 3) ] .
* إن الرسالة الخاتمة لابد أن تكون محفوظة حتى تصل إلى الناس مهما طال الزمن، ويخطئ كثير من الناس حين يظن أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن الكريم وحده، لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)،6 ولو كان المراد حفظ القرآن فقط لجاءت الآية قاطعة بذلك: فتقول مثلا: نزلنا القرآن وإنا له لحافظون، فاختيار لفظ الذكر بدلا من القرآن له حكمة عظيمة، فالذكر هو البلاغ والبيان عن الله، أي القرآن والسنة، وأبرز صور الحفظ هي: حفظ القرآن الكريم بالحفظ المباشر من الله تبارك وتعالى، وحفظ السنة بانتداب علماءها لوضع ضوابط وأسس تميز الصحيح من المكذوب المفترى على النبي صلى الله عليه وسلم
* لابد أن يشمل حفظ الله لهذا الدين حفظ السنة أيضا، لأن السنة تبين القرآن الكريم، كما أشارت إلى ذلك سورة النحل، وهذا الأمر محل إجماع أهل السنة، فكيف يُحفظ المبيَّن وهو القرآن الكريم، ويترك المبيِّن وهي السنة مع أننا لن نتمكن من فهم القرآن الكريم إلا في ضوء بيان السنة المطهرة.
* تعرض السنة لمحاولات الوضع وغيره، لا تعني أنها غير محفوظة، بل إن هذا الهجوم الشرس على السنة هو من أقوى الأدلة على حفظها، وذلك أن الحفظ الإلهي للسنة لم يكن يظهر لو لم تتعرض لهذا الهجوم الشديد، حتى تظهر عناية الله لها بأن هيأ لها وسائل الحفظ المعروفة عند العلماء، بل إن القرآن الكريم تعرض وما زال لمحاولات التبديل والتغيير، ولكن الله عاصمه، وعاصم نبيه، وكاشف كيد المبطلين، ونظير ذلك قوله تعالى لنبيه والله يعصمك من الناس، ومع ذلك فقد تعرض لمحاولات القتل والاعتداء كما في بني النضير، وفي قصة الشاة المسمومة، فتلك العصمة لم تظهر لنا بصورة واضحة جلية إلا مع تلك المحاولات.
3. الدفع الثالث: السنة ثابتة في حق جميع الأنبياء وتلقوها من ربهم?
إذا وافَقَنا مَن يناظرنا على ما طرحناه، فبها ونعمت، وإن لم يكفه ما قدمناه فيأتي دورنا في طرح هذا السؤال عليه: ماذا تلقى الأنبياء من ربهم? ولابد له أن يجيب أنهم تلقوا الكتاب فقط, لأنه لو قال معه غيره لبطلت دعواه, فيطالب بتفسير الحكمة المشار إليها في الآيات التالية:
* (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً)7
* (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)8
* (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)9
* (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)10
* (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)11
* (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)12
* (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)13
* (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)14
* قول الحق سبحانه وفي حق عيسى عليه السلام (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ)15 ، ويقول سبحانه وتعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات قال: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الزخرف: 63[، ويقول جل من قائل: (وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)16 ، وفي سورة آل عمران يقول سبحانه: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)17
* ويقول سبحانه في حق إبراهيم الخليل عليه السلام: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)18
* وفي حق نوح عليه السلام: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)19
* وفي حق صالح عليه السلام: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)20
وبالنظر إلى الآيات الواردة في شأن نبينا صلى الله عليه وسلم والتي وردت فيها كلمة الحكمة معطوفة على الكتاب ، فإن ذلك يدل على أن الحكمة غير الكتاب ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، ولم يأتنا رسو ل الله صلى الله عليه وسلم بشيء غير القرآن مما يحتم أن يكون المراد بالحكمة أنها السنة . يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : فذكر الله الكتاب وهو القرآن ، وذكر الحكمة ، فسمعت من أرضى من أهل العلم يقول : الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يشبه ما قال – والله أعلم – لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة ، وذكر الله نبيه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يَجُزْ - والله أعلم – أن يقال : الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم21 .
كما نقل البيهقي في المدخل إلى السنن بأسانيده إلى الحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير قال : الحكمة هي السنة في آية : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) .
4. الدفع الرابع : قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) ، فما الداعي للسنة؟
الجواب: أن المراد بالكتاب في هذه الآية ليس القرآن الكريم والدليل في نفس الآية، يقول سبحانه: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، ما فرطنا في الكتاب من شيء، ثم إلى ربهم يحشرون) ]الأنعام:8 [ فالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، المدون فيه ما كان وما سيكون من علم الله تعالى، ولا يقول عاقل أن استقصاء المخلوقات والدواب والطير مسطور في القرآن.
وحتى مع القول بأن الكتاب في الآية الكريمة تعني القرآن، فإن الله تعالى قد جعله تبيانا لكل شيء، ولم يفرط فيه من شيء، ومن بين ما بينه سبحانه وتعالى في كتابه، ولم يفرط في توضيحه، أمره في عشرات الآيات وفي مواضع متعددة بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد بين لنا أن تلك السنة هي التي تبين القرآن، فلماذا تمسكتم بآية وغفلتم عن الآيات الأخرى، أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.
.......................................... يتبع ......................................